الدور التركي المحوري في غزة- دعم، مفاوضات، وتحالف إقليمي ضد التوسع الإسرائيلي.

بعد صراع مرعب، دخلت غزة فصلًا جديدًا مع سريان وقف إطلاق النار. هذا التهدئة "الواهنة" أوقفت القصف الإسرائيلي المتواصل على الأحياء السكنية بشكل مؤقت، لكن الوضع لا يزال متقلبًا للغاية، وينذر بالانهيار في أي لحظة.
وبنفس القدر الذي اتسمت به الحرب من شراسة، كانت المفاوضات التي أفضت إلى هذا الهدنة طويلة الأمد وشاقة، بل بدت وكأنها معركة ضروس بحد ذاتها.
وشارك في تلك المباحثات كل من قطر ومصر والولايات المتحدة، بينما رفضت إسرائيل بإصرار وحزم وجود تركيا على طاولة الحوار. ومع ذلك، وعلى الرغم من عدم مشاركة تركيا بشكل علني ورسمي، إلا أنها تدخلت بطريقة أو بأخرى في جميع مراحل المفاوضات.
وفي إفادة صحفية أدلى بها محمد نزال، العضو البارز في المكتب السياسي لحركة حماس، أشار خلال مقابلة شخصية إلى أن: "تركيا لم تكن بمنأى عن هذه المفاوضات في أي وقت من الأوقات، خاصة في الأشهر الأخيرة. وعلى الرغم من اعتراض إسرائيل على الدور التركي الفعال والحيوي، فقد أكدنا دائمًا على الأهمية القصوى لوجود تركيا كطرف أساسي في العملية برمتها".
الدفاع عن شرعية "حماس"
ربما كانت الخطوة الأكثر أهمية من الناحية الاستراتيجية التي اتخذتها تركيا خلال هذه الفترة، هي نجاحها الباهر في تقديم حركة حماس كطرف يتمتع بالشرعية والقانونية في الحرب الدائرة، وفي مفاوضات وقف إطلاق النار.
فعلى الرغم من أن حركة حماس مُدرجة في قوائم المنظمات الإرهابية في عدد من الدول، وأن الولايات المتحدة وإسرائيل كانتا ترفضان بشدة التعامل معها بأي صورة من الصور تمنحها شرعية سياسية، فضلًا عن تفضيل التفاوض عبر قنوات أخرى غير مباشرة، إلا أن الموقف التركي القوي والحاسم نجح في تغيير هذه الديناميكية بشكل جذري.
وعلى الرغم من المحاولات الحثيثة لاستبعاد قطر أيضًا من هذا الدور المحوري، وفرض عواصم أخرى لتكون بمثابة المركز الرئيسي للمفاوضات، إلا أن قطر أثبتت أنها لا غنى عنها إطلاقًا؛ وذلك بفضل موقعها الدبلوماسي المتميز وبراعتها السياسية الفائقة، مما جعلها لاعبًا رئيسيًا في المحادثات المصيرية.
من جانبها، قبلت تركيا على مضض أن تكون قطر هي اللاعب الأساسي والرئيسي في المفاوضات، وتجنبت فرض أية شروط أو قيود، غير أنها استمرت في دعم موقفها علنًا وبقوة. وأكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في تصريحات حاسمة وقوية، قائلًا: "حماس ليست منظمة إرهابية على الإطلاق، بل هي حزب سياسي شرعي يدافع عن أرضه المحتلة"، وقد كرر هذا الموقف الثابت في مختلف المحافل الدولية الهامة، كما استقبل قيادات حماس استقبالًا حافلًا.
من جهته، حرص وزير الخارجية التركي هاكان فيدان على الاجتماع بقادة حماس في مناسبات عديدة ومتنوعة، مما عزز من مكانة الحركة كطرف رسمي ومهم في مفاوضات وقف إطلاق النار، ليس فقط أمام الدول العربية الشقيقة بل حتى في نظر الولايات المتحدة الأمريكية.
أما رئيس جهاز الاستخبارات التركية المرموق، إبراهيم قالن، فقد عقد اجتماعات مكثفة ومثمرة مع مسؤولين كبار في الولايات المتحدة وإسرائيل ومصر، مؤكدًا لهم أن استبعاد حماس من المفاوضات سيجعل التوصل إلى حل أمرًا مستحيلًا. وقد لعب دورًا كبيرًا وهامًا في تقديم الدعم الاستراتيجي الدقيق ورسم الخطط المحكمة خلال هذه الفترة الحساسة.
تدخل حاسم من أجل وقف إطلاق النار
إن الاستراتيجية التركية الذكية والفعالة في دعم شرعية حركة حماس أثرت بشكل كبير أيضًا في التوازنات الداخلية للحركة، مما أتاح للدبلوماسية فرصة أكبر للتأثير الإيجابي والبناء.
وفي تصريحات أدلى بها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن قبيل انتهاء ولايته، أشار بوضوح إلى الدور التركي المحوري قائلًا: "لقد تحدثنا مع الرئيس أردوغان مباشرة لحثه على استخدام ثقله ونفوذه لإعادة حماس إلى طاولة المفاوضات، وقد نجح بالفعل في تحقيق ذلك".
وواصلت تركيا أداء هذا الدور التيسيري الهام من خلال مشاركتها الفعالة في المفاوضات، وجهود الإغاثة الإنسانية، ودعم التوازنات الإقليمية الدقيقة، مع استخدام لغة تواصل حذرة وغاية في الدقة؛ وذلك لضمان استمرار دور كل من قطر ومصر المحوري والفعال.
وعندما سُئل وزير الخارجية التركي هاكان فيدان عن دور تركيا الفعال في إعلان وقف إطلاق النار، أجاب باختصار شديد قائلًا: "لا أرغب إطلاقًا في سرقة الأضواء من وزراء الدول الأخرى الذين أسهموا بقدر كبير في تحقيق هذا الاتفاق الهام والمصيري".
الدعم التركي الإعلامي لفلسطين
أثناء قيام تركيا بتيسير محادثات وقف إطلاق النار بشكل هادئ وغير مرئي، بذلت في الوقت ذاته جهودًا جبارة واستثنائية في كشف جرائم الحرب الإسرائيلية البشعة أمام العالم أجمع.
فقد خصصت وسائل الإعلام التركية بمختلف أنواعها، وبجميع قنواتها المتنوعة تقريبًا، تغطية إعلامية مكثفة لإظهار مدى وحشية إسرائيل الغاشمة من خلال تقارير مفصلة وبرامج خاصة ومتميزة. كما أعدت القنوات والصحف التي تبث باللغتين العربية والإنجليزية أفلامًا وثائقية مؤثرة وملفات إخبارية شاملة حول معاناة أهالي غزة الأبرياء.
من جهتها، قامت وكالة الأناضول المرموقة بتوثيق دقيق للصور ومقاطع الفيديو المؤلمة التي تثبت وقوع مجازر مروعة بحق الفلسطينيين العزل، وأصدرتها على شكل كتب قيمة وأفلام وثائقية مؤثرة تم تقديمها كأدلة دامغة إضافية للمحكمة الجنائية الدولية.
وبالتزامن مع ذلك، عمل مركز مكافحة التضليل التابع لرئاسة الاتصالات التركية على تفنيد الأكاذيب الإسرائيلية المضللة ونشر الحقائق الدامغة بلغات متعددة حول العالم.
أما الرئيس التركي المحنك أردوغان، فقد واصل انتقاداته الحادة لإسرائيل في جميع برامجه المحلية والدولية، محاولًا بكل ما أوتي من قوة حشد الرأي العام العالمي ضدها.
خطط تركيا لما بعد وقف إطلاق النار
وفقًا للبيانات والإحصائيات الإسرائيلية الرسمية، تحتل تركيا الصدارة والمرتبة الأولى بين الدول التي تقدم المساعدات الإنسانية العاجلة لقطاع غزة المحاصر. ولا تقتصر المساعدات التركية السخية على توفير الغذاء الضروري فقط، بل تشمل أيضًا مجالات حيوية وهامة مثل: الصحة، والطاقة، والبنية التحتية المتضررة، وهي على أهبة الاستعداد للتدخل الفوري بمجرد أن تسهل إسرائيل دخول المساعدات إلى القطاع.
ومن أجل ضمان استمرار وقف إطلاق النار الهش، تواصل تركيا اتصالاتها الدبلوماسية المكثفة مع الإدارة الأميركية الجديدة بقيادة دونالد ترامب. إذ يبدو جليًا أن الرئيس الأميركي الجديد مهتم بلعب دور فعال لإنهاء هذا الصراع الدائر ومنع انتشاره وتفاقمه، مما يجعل تركيا في موقع محوري وهام للغاية.
وتعلن تركيا على الملأ، كما هو الحال تمامًا في القضية السورية الشائكة، استعدادها التام لأداء دور فعال وبناء في حل القضية الفلسطينية العادلة، وتحقيق الاستقرار الدائم في المنطقة بأسرها.
تحالف إقليمي ضد التوسع الإسرائيلي
منذ اندلاع الحرب في غزة، أكدت تركيا مرارًا وتكرارًا أن إسرائيل لن تتوقف عند احتلال القطاع المحاصر، وهو ما ثبت لاحقًا بالفعل من خلال التوسع الإسرائيلي الملحوظ في الضفة الغربية المحتلة، وسوريا، ولبنان.
تسعى تركيا جاهدة بكل ما أوتيت من قوة لتوضيح أن استمرار التوسع الإسرائيلي الممنهج يمثل تهديدًا وجوديًا لبقية دول المنطقة أيضًا. وتعتقد جازمة أن التصدي لهذا الخطر الجسيم يتطلب إقامة تحالفات إقليمية قوية وتعاونًا مشتركًا ومثمرًا.
وقد أظهرت التجربة المريرة في سوريا مدى النجاح الباهر الذي يمكن أن يحققه التعاون الإقليمي، حيث نجحت تركيا بحنكة في إحباط خطة إسرائيل والولايات المتحدة لإنشاء كيان انفصالي في شمال سوريا بقيادة مليشيات "قسد/ PKK" الإرهابية، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى حماية وحدة الأراضي السورية، ووقف المخططات الإسرائيلية الخبيثة.
ومع استمرار مساعي إسرائيل الحثيثة لتقسيم غزة إلى دويلات صغيرة، والتوسع بوتيرة متسارعة في الضفة الغربية، وتهديد الدول المجاورة مثل: الأردن، ومصر، ولبنان، وسوريا، تزداد بشكل ملحوظ أهمية الجهود الدبلوماسية التركية الدؤوبة الرامية إلى منع تنفيذ هذه المخططات الشريرة.
ومع وصول إدارة ترامب الجديدة إلى السلطة، والتي تضم شخصيات معروفة بميولها المتطرفة لدعم إسرائيل بشكل أعمى، تدرك تركيا تمام الإدراك أن التحركات الدبلوماسية المكثفة أصبحت مسألة حيوية وهامة للغاية للحفاظ على الاستقرار والسلام في المنطقة بأسرها.
ولا شك على الإطلاق أن وقف إطلاق النار الحالي سيؤدي حتمًا إلى تغييرات كبيرة وملموسة في التوازنات الإقليمية الدقيقة.